يبدو توني بلير الآن وكأنه تمثال ضخم يقف منتصبا في ساحة المشهد السياسي البريطاني دون أن يكون هناك من يجرؤ على تحديه· غير أن بلير الذي يهيمن على المشهد، هو نفسه بلير الذي يواجه الآن كماً كبيراً من المشكلات مع جمهور ناخبيه· علاوة على ذلك، فإنه باعتباره الزعيم الأكثر أهمية في مجال السياسات العابرة للقوميات في أوروبا، يجد نفسه الآن مضطرا للعودة إلى الحظيرة الأوروبية شاقا طريقه بحذر وحرص ومهارة بعد سنوات من الابتعاد·
تلك هي المفارقات المحيطة برئيس وزراء بريطانيا الرجل الشديد العناد وداعية الأخلاق الذي لا يشق له غبار· وتنبع تلك المفارقات بشكل رئيسي من العلاقة الغريبة التي تربطه بـ جورج دبليو بوش وقراره الفوري وغير المتردد بالوقوف إلى جانب أميركا في حربها ضد العراق·
ويعتقد العديد من البريطانيين أن بوش ما كان ليقدم على غزو العراق ما لم يحظَ بدعم من بلير وهو ما يدفعهم للامتعاض من هذا الأخير· أما البعض الآخر فيذهب إلى القول إن بلير قد حصل على القليل من واشنطن مقابل المخاطر الهائلة التي تصدى لها· كل هذه آراء تحتمل الخلاف، بيد أن الشيء الواضح اليوم هو أن نفوذ الولايات المتحدة في أوروبا المتغيرة، وشديدة السيولة، أصبح يتوقف بشكل كبير على رؤية بلير ، وطاقته، وقدراته السياسية على الاستمرار، مما يعني أن الرجل قد أصبح حليفا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لأميركا·
وفي الداخل البريطاني تأكدت أهمية بلير الأسبوع الماضي وذلك حين تخلص حزب المحافظين من قائده الباهت الشخصية إيان دنكان سميث في محاولة يائسة منه للعثور على زعيم آخر تتوافر لديه القدرة على التصدي لبلير في النهاية· وقد جاء هذا التطور عقب نجاح بلير في مواجهة منتقديه من الجناح اليساري في المؤتمر السنوي لحزب العمال الذي عقد في شهر سبتمبر الماضي· ولكن كل هذه الإنجازات التي حققها بلير في الحقل السياسي لم تشفع له في الحصول على رضا شعبه وناخبيه، حيث يوجه الناخبون اللوم لقائدهم المبجل بسبب تدني مستوى خدمات السكك الحديدية، وقصور الإصلاحات الصحية العامة التي تهدد العمالة والتقاليد البريطانية·
ومما يفاقم من حدة شكاوى الشعب البريطاني، شعوره بأن بلير يضيع الكثير من وقته في الشؤون الخارجية، وخصوصا فيما يتعلق بتحسين علاقاته مع الرئيس الأميركي جورج بوش الذي يعاني من تقلص شديد في شعبيته· وفي استطلاعات الرأي التي أجريت في هذا الشأن مؤخرا، أعرب البريطانيون عن رغبتهم في عودة رئيس وزرائهم إلى الاهتمام بالشؤون الداخلية·· وهو الأمر الذي يتعين عليه أن يهتم به كما أشار إلى ذلك أحد مستشاريه·
من خلال ثلاث زيارات قمت بها إلى إنجلترا خلال الشهرين الماضيين، أستطيع أن أقول إننا سنرى بلير وقد أصبح أكثر اهتماما بالشؤون الداخلية خلال الفترة القادمة· أما الأوروبيون والأميركيون فسوف يحدوهم الأمل ألا يؤدي انشغال بلير بالشؤون الداخلية إلى تقليص التزامه وتعهده بالانغماس في الشؤون الدولية والأوروبية، والذي اتسم بالاتساق والجدوى في الوقت نفسه·
في رأيي أن بلير لم ينضم إلى بوش في غزو العراق من أجل إرضاء الأخير، ولا من أجل تحقيق مكاسب عاجلة لبريطانيا لأن الرجلين قد نجحا في إقامة صلات شخصية ربما أقوى من تلك التي كانت موجودة بين بلير و كلينتون · مع ذلك أقول إن الرجلين يقفان على أرضية غير ثابتة عندما يتعلق الأمر بالتعاون معا بشكل عملي ·
و بلير يرفض الاتهامات الموجهة إليه بأنه ذهب إلى حرب العراق كي يتملق واشنطن· ففي تعليق له أمام مجموعة من أعضاء حزب العمال المتمردين الربيع الماضي أدلى بتصريح يحب مساعدوه كثيرا أن يستشهدوا به، وذلك عندما قال لأعضاء حزبه إن الأمر أسوأ من ذلك·· لأن الحقيقة هي أنني أومن بذلك حقا ·
وهناك في الحقيقة خيطان وراء التزام بلير الباهظ التكلفة بالتعاون مع أميركا في العراق: أحدهما هو الرأي الذي أدلى به بلير بشكل خاص في اجتماع لمجلس وزرائه منذ عدة أعوام حيث قال: إن موقف بريطانيا الافتراضي في الأزمات هو الوقوف إلى جانب أميركا · ويشرح أحد مساعديه أن بلير يستشعر في قرارة نفسه أن أكبر خطر يواجه العالم هو أميركا الانعزالية، أي أميركا التي لا تقف إلى جانب بريطانيا، ولا جانب أوروبا، عندما يحتاجان إليها·
غير أن هذا لا يعني في رأيه أنه يفضل أميركا على أوروبا· تبدى ذلك واضحا من خلال قيامه خلال الأسابيع الأخيرة باستئناف إقامة الجسور بين بريطانيا وبين كل من فرنسا وألمانيا وذلك فيما يصفه أحد مساعديه بأنه محاولة لتأسيس بديل مقبول لتوجهات الإدارة الأميركية الأحادية وهي تلك التوجهات التي ستمضي دونما عائق إذا ما جعلت فرنسا والآخرون من إعاقة وتعويق القوة الأميركية هدفا أوليا من أهداف الاتحاد الأوروبي·
وخير وسيلة يمكن بها لبلير أن يقوم بمواصلة استراتيجيته هي أن يقوم بها تلميحا أو بصمت ودون ضجيج· السبب الذي يجعلنا نقول ذلك هو أن بلير قد تحدث كثيراً -ربما أكثر مما يجب- عن التزامه الثاني وهو التدخل الإنساني · فقد سمعته يتناول